كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضباً، وجعلت مكة تغلي كالمرجل ضد النبي صلَّى الله عليه وسلم، حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق، ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهو النبي صلَّى الله عليه وسلم.
جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد وقعة بدر بيسي ر-وكان عمير من شياطين قريش ، ممن كان يؤذي النبي صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة -وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر ، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير.
قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة ، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب -وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر - فقال عمر: هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر. ثم دخل على النبي صلَّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال: فأدخله علي ، فأقبل عمير فلببه بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه - قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة.
ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرؤوه القرآن، وأطلقوا له أسيره.
وأما صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر .
وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلفه صفوان أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
ورجع عمير إلى مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير.
31- 4 - غزوة بني قينقاع:
قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مع اليهود. وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين. وهاك مثالاً من ذلك:
31- 5 - نموذج من مكيدة اليهود:
قال ابن إسحاق: مر شاس بن قيس -وكان شيخاً (يهودياً ) قد عسا عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول لله صلَّى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة -يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم- وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة -والظاهرة: الحرة - السلاح السلاح، فخرجوا إليها (وكادت تنشب الحرب ).
فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.
هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كان لهم خطط شتى في هذا السبيل، كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشكوك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل.
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر ، على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.
31- 6 - بنو قينقاع ينقضون العهد:
لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر ، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الأقاصي والأداني، تميزت قدر غيظهم وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى.
وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف -وسيأتي ذكره - كما أن أشر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة -في حي باسمهم - وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة ، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون لنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ، وقدم المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار ِ}.
كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلَّى الله عليه وسلم غيظه، وصبر وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي.
وازداد اليهود -من بني قينقاع - جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة.
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها -وهي غافلة - فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله -وكان يهودياً - فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
الحصار ثم التسليم ثم الجلاء
31- 8 - غزوة السويق:
بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم-سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها "العريض "، فقطعوا وأحرقوا هناك أسواراً من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة .
وبلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً، وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق، وقعت في ذي الحجة سنة 2هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر.
31- 9 - غزوة ذي أمر:
وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3هـ.
وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة ، فندب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو.
وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة . أما النبي صلَّى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى" بذي أمر " فأقام هناك صفراً كله -من سنة 3هـ - أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة.
جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر بعد وقعة بدر بيسي ر-وكان عمير من شياطين قريش ، ممن كان يؤذي النبي صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة -وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر ، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم خير.
قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة ، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب -وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر - فقال عمر: هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر. ثم دخل على النبي صلَّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، قال: فأدخله علي ، فأقبل عمير فلببه بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه - قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة.
ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك.
قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرؤوه القرآن، وأطلقوا له أسيره.
وأما صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر .
وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلفه صفوان أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
ورجع عمير إلى مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه ناس كثير.
31- 4 - غزوة بني قينقاع:
قدمنا بنود المعاهدة التي عقدها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مع اليهود. وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة، وفعلاً لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفاً واحداً من نصوصها. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين. وهاك مثالاً من ذلك:
31- 5 - نموذج من مكيدة اليهود:
قال ابن إسحاق: مر شاس بن قيس -وكان شيخاً (يهودياً ) قد عسا عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول لله صلَّى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة -يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم- وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة -والظاهرة: الحرة - السلاح السلاح، فخرجوا إليها (وكادت تنشب الحرب ).
فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.
هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثارة القلاقل والتحريشات في المسلمين، وإقامة العراقيل في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كان لهم خطط شتى في هذا السبيل، كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشكوك في قلوب الضعفاء، وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مالي، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان عليهم يأكلونه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل.
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر ، على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.
31- 6 - بنو قينقاع ينقضون العهد:
لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر ، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الأقاصي والأداني، تميزت قدر غيظهم وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى.
وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف -وسيأتي ذكره - كما أن أشر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة -في حي باسمهم - وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة ، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون لنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ، وقدم المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَار ِ}.
كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلَّى الله عليه وسلم غيظه، وصبر وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي.
وازداد اليهود -من بني قينقاع - جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة.
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها -وهي غافلة - فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله -وكان يهودياً - فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
الحصار ثم التسليم ثم الجلاء
31- 8 - غزوة السويق:
بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة، وكان قد نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبر يمينه، حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف فانصرف إلى سلام بن مشكم-سيد بني النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها "العريض "، فقطعوا وأحرقوا هناك أسواراً من النخل، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة .
وبلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً، وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق، وقعت في ذي الحجة سنة 2هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر.
31- 9 - غزوة ذي أمر:
وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3هـ.
وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة ، فندب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو.
وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة . أما النبي صلَّى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى" بذي أمر " فأقام هناك صفراً كله -من سنة 3هـ - أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة.
الخميس مارس 14, 2013 1:33 am من طرف Ahmed shaban
» 77 كتاب للطاقة الداخلية + 9 كتب للباراسيكولوجى
الخميس سبتمبر 06, 2012 6:21 pm من طرف oratchemaro
» حصريا فيلم ((ابراهيم الابيض)) بطولة احمد السقا و هند صبرى نسخة أصلية Rmvb حجم 380 MB
الأربعاء مايو 30, 2012 4:18 pm من طرف mohamed samy 2009
» افلام (فيديوهات) اللعبه الشهيرة need for speed most wanted
الجمعة فبراير 25, 2011 3:33 pm من طرف ArShIdO5
» مكتبة الاسكندرية صرح التاريخ(المكتبة الحديثة)
الأحد يوليو 25, 2010 2:26 pm من طرف ArShIdO5
» مكتبة الاسكندرية صرح التاريخ(اللمكتبة القديمة)
الأحد يوليو 25, 2010 2:13 pm من طرف ArShIdO5
» لعبة الصراحة فى الحب
الجمعة مارس 26, 2010 1:06 am من طرف hamsa 3etab
» صور تحت المطر لازم تتفرج عليها
الثلاثاء فبراير 09, 2010 6:23 pm من طرف hamsa 3etab
» فلسطين في موسوعة جينيس
السبت نوفمبر 28, 2009 11:52 pm من طرف dydy
» اصدقاء
الخميس نوفمبر 26, 2009 6:46 pm من طرف el-klawy