وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو.
قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلَّى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف النبي صلَّى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
وعنه أيضاً قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلَّى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلَّى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله.
وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص -الذي كسر الرباعية الشريفة - فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه -عتبة هذا - إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين.
وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلَّى الله عليه وسلم حتى أنقاه. فقال: مجه. فقال: والله لا أمجه أبداً. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقتل شهيداً.
وقاتلت أم عمارة، فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جراحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلَّى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -لشبهه به - فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمداً قد قتل.
32- 35 - إشاعة مقتل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وأثره على المعركة:
ولم يمض على هذا الصباح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلَّى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين، وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.
32- 36 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف:
ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقام بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك -وكان أول من عرفه - فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن أصمت؛ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون، إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام.
تقدم عثمان بن عبدالله بن المغيرة -أحد فرسان المشركين - إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا. وقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه، وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
وعطف عبدالله بن جابر -فارس آخر من فرسان مكة - على الحارث بن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه، فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة -البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبدالله بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة -في انسحاب منظم - إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
32- 37 - مقتل أبي بن خلف:
قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا؟ فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ -تدحرج - منها عن فرسه مراراً، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني والله محمد. قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك فوالله لو بصق عليّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: أنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً.
32- 38 - طلحة ينهض بالنبي صلَّى الله عليه وسلم:
وفي أثناء انسحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدَّن وظاهر بين الدرعين، وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيدالله، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي الجنة. 32- 39 - آخر هجوم قام به المشركون:
ولما تمكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب؛ قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل -يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.
وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لسعد: أجبنهم -يقول: ارددهم - فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه.
32- 40 - تشويه الشهداء:
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلَّى الله عليه وسلم. ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً -بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم -وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً -خلاخيل - وقلائد.
مدى إستعداد المسلمي للقتال
32- 42 - بعد انتهاء الرسول صلَّى الله عليه وسلم إلى الشعب:
ولما استقر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في مقره في الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملأ درقته ماء من المهراس -قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً وقيل: اسم ماء بأحد - فجاء به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه.
وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم.
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلَّى الله عليه وسلم، ودعا له بخير، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.32- 43 - شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر:
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه -وكان النبي صلَّى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة -ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم قال: اعل هبل.
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال، يوم بيوم بدر ، والحرب سجال.
فاجاب عمر: وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟
فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر.
32- 44 - مواعدة التلاقي في بدر:
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه، قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد.
قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلَّى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف النبي صلَّى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
وعنه أيضاً قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلَّى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلَّى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله.
وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص -الذي كسر الرباعية الشريفة - فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه -عتبة هذا - إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين.
وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلَّى الله عليه وسلم حتى أنقاه. فقال: مجه. فقال: والله لا أمجه أبداً. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقتل شهيداً.
وقاتلت أم عمارة، فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جراحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلَّى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -لشبهه به - فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمداً قد قتل.
32- 35 - إشاعة مقتل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وأثره على المعركة:
ولم يمض على هذا الصباح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلَّى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين، وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.
32- 36 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف:
ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقام بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك -وكان أول من عرفه - فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن أصمت؛ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون، إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام.
تقدم عثمان بن عبدالله بن المغيرة -أحد فرسان المشركين - إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا. وقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه، وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
وعطف عبدالله بن جابر -فارس آخر من فرسان مكة - على الحارث بن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه، فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة -البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبدالله بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة -في انسحاب منظم - إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
32- 37 - مقتل أبي بن خلف:
قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا؟ فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ -تدحرج - منها عن فرسه مراراً، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني والله محمد. قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك فوالله لو بصق عليّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: أنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً.
32- 38 - طلحة ينهض بالنبي صلَّى الله عليه وسلم:
وفي أثناء انسحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدَّن وظاهر بين الدرعين، وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيدالله، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي الجنة. 32- 39 - آخر هجوم قام به المشركون:
ولما تمكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب؛ قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل -يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.
وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لسعد: أجبنهم -يقول: ارددهم - فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه.
32- 40 - تشويه الشهداء:
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلَّى الله عليه وسلم. ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً -بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم -وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً -خلاخيل - وقلائد.
مدى إستعداد المسلمي للقتال
32- 42 - بعد انتهاء الرسول صلَّى الله عليه وسلم إلى الشعب:
ولما استقر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في مقره في الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملأ درقته ماء من المهراس -قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً وقيل: اسم ماء بأحد - فجاء به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه.
وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم.
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلَّى الله عليه وسلم، ودعا له بخير، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.32- 43 - شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر:
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه -وكان النبي صلَّى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة -ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم قال: اعل هبل.
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال، يوم بيوم بدر ، والحرب سجال.
فاجاب عمر: وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟
فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر.
32- 44 - مواعدة التلاقي في بدر:
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه، قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد.
الخميس مارس 14, 2013 1:33 am من طرف Ahmed shaban
» 77 كتاب للطاقة الداخلية + 9 كتب للباراسيكولوجى
الخميس سبتمبر 06, 2012 6:21 pm من طرف oratchemaro
» حصريا فيلم ((ابراهيم الابيض)) بطولة احمد السقا و هند صبرى نسخة أصلية Rmvb حجم 380 MB
الأربعاء مايو 30, 2012 4:18 pm من طرف mohamed samy 2009
» افلام (فيديوهات) اللعبه الشهيرة need for speed most wanted
الجمعة فبراير 25, 2011 3:33 pm من طرف ArShIdO5
» مكتبة الاسكندرية صرح التاريخ(المكتبة الحديثة)
الأحد يوليو 25, 2010 2:26 pm من طرف ArShIdO5
» مكتبة الاسكندرية صرح التاريخ(اللمكتبة القديمة)
الأحد يوليو 25, 2010 2:13 pm من طرف ArShIdO5
» لعبة الصراحة فى الحب
الجمعة مارس 26, 2010 1:06 am من طرف hamsa 3etab
» صور تحت المطر لازم تتفرج عليها
الثلاثاء فبراير 09, 2010 6:23 pm من طرف hamsa 3etab
» فلسطين في موسوعة جينيس
السبت نوفمبر 28, 2009 11:52 pm من طرف dydy
» اصدقاء
الخميس نوفمبر 26, 2009 6:46 pm من طرف el-klawy